كان بول بريمر قد حدد سلفا موعدا لأحد المسئولين الدوليين لاستقباله في بغداد، وصل المسئول، لكنه لم يجد بول بريمر، لقد أبلغ أن بريمر استدعي علي عجل لمقابلة الرئيس جورج بوش في الولايات المتحدة.
أبدي المسئول الدولي غضبه، إن بريمر لم يقدم له حتي مجرد اعتذار، لقد أبدي الرجل دهشته من هذا السلوك المتعجرف وأبلغ غضبته إلي من التقوه ليبلغوه اعتذار بريمر.
كان العنوان المعلن لهذا الحدث أن الرئيس الأمريكي جورج بوش استدعي بريمر علي عجل للبحث عن خطة لنقل السلطة إلي العراقيين بعد تدهور الأوضاع الأمنية والسياسية علي الساحة العراقية، وقيل في هذا الأمر كلام كثير.
انطلقت طائرة خاصة من مطار بغداد تقل بول بريمر ومعه وبشكل غير معلن بعض القادة العسكريين وكان هناك علي الطائرة 'الرئيس صدام حسين'.
انطلقت الطائرة من مطار بغداد لنقل مستقليها إلي البيت الأبيض في واشنطن، لم يكن أحد يعرف باستثناء قلائل أن هذا الشخص الذي جري التعمية علي مظهره هو صدام حسين. في هذا الوقت أشاع الأمريكيون في كل مكان كثيرا من الأخبار حول طرق البحث عن صدام ورسائل صدام وأعوان صدام وخطورة صدام.
كانت أخبارا متعمدة ومعدة سلفا، ولكن لم يسأل أحد لماذا توقفت رسائل صدام حسين إلي شاشات التلفاز منذ هذا الوقت؟!
وكانت آخر رسالة بثتها قناة 'العربية' بصوت صدام حسين قد أذيعت خلال شهر رمضان، وهي رسالة يبدو أنها أعدت سابقا، وأن عملية بثها في هذا الوقت الذي كان فيه صدام في أيدي القوات الأمريكية هو الذي أثار أعضاء مجلس الحكم العراقي الذين تلقوا توجيهات من بول بريمر بإغلاق مكاتب قناة 'العربية' في بغداد عقابا لها علي بث هذا الشريط الذي أعاد صدام لدائرة الفعل، بالرغم من أنه كان بأيدي الأمريكان.
كان خبر مقتل عدي وقصي نجلي صدام حسين وحفيده مصطفي في يوليو الماضي بمثابة الصدمة للأب، لم يصدق الرئيس ما جري، كان يظن أن قراره بإبعادهم عنه يعني توفير الحماية لهم، لكنهم سلموا من قبل الرجل الذي ظن أنه سيحميهم واستشهد الثلاثة في معركة اثبتوا فيها صلابة منقطعة النظير.. اهتز وجدان الأب، ظل أسبوعا كاملا يرفض تناول الطعام، كان كثيرا ما يهذي بكلمات غير مفهومة.
منذ هذا الوقت بدأت القيادة العسكرية الأمريكية في العراق أولي خطوات الخطة الجديدة للبحث عن صدام حسين واعتقاله، كانت الخطة تحت اشراف مباشر من الجنرال ريكاردو سانشيز يعاونه في ذلك الجنرال أودرينو قائد الفرقة الرابعة.
قامت الخطة علي افتراض يقول: إن صدام سيحاول اللجوء إلي عشيرته وإلي بلدته تكريت من أجل الاحتماء بها، خاصة أن الكثير من أفراد الحرس والمرافقين الشخصيين للرئيس بدءوا يبتعدون عن نطاق مكان صدام بعد مقتل نجليه وراحوا يمارسون مهامٌ أخري، فانضم بعضهم إلي فرق المقاومة الميدانية بينما راح آخرون ينظمون أجهزة جمع المعلومات لصالح المقاومة.
كان صدام محبطا من جراء استشهاد نجليه وحفيده، لكنه كان مصمما علي الاستمرار مهما كان الثمن، كان يقاوم الاحباط بكل ما يملك وراح يبعث بشريط إلي قناة 'العربية' ينعي فيه ولديه ويعلن استمرار المقاومة حتي النصر.
كانت البداية الأولي عندما تم اعتقال ثلاثة من مساعدي صدام الرئيسيين وهم من الحرس الشخصي له، وكانوا علي قدر كبير من الأهمية، لأنهم كانوا معنيين بتحركات صدام وكذلك المخابيء السرية التي كان يزورها قبل سقوط بغداد، وكان ذلك أمرا مهما للأمريكيين لأنهم كانوا يعتقدون أن هذه المخابيء توجد تحت القصور الرئاسية، بذلوا الكثير من الجهد من أجل كشف أسرار هذه المخابيء إلا أنهم فشلوا.
وكانت الفرقة الرابعة والجنود الأمريكيون يقومون بتفتيش هذه القصور الرئاسية مرتين في اليوم الواحد احتمالا لوصول صدام إليها في أية لحظة، وكانت القصور المستهدفة حوالي 20 قصرا، أكثرها أهمية تلك القريبة من نهر دجلة.
وأمام هذه المعضلة بدأ سيمون دارايز أحد أبرز قيادات ال'سي. آي. إيه' في العراق في وضع خطة جديدة لاعتقال صدام.
كان دارايز يري أن صدام لن يتعمد المرور في المخابيء السرية لهذه القصور لأنه يعلم جيدا أن القوات الأمريكية تفرض حصارا من السياج الأمني القوي علي هذه القصور، وأن أفراد حرسه الشخصيين الذين تم القبض عليهم أدلوا بمعلومات تفصيلية عن المخابيء السرية في هذه القصور أثناء العمليات العسكرية الأمريكية علي العراق وأنه يعلم أن الأمريكيين عرفوا جيدا هذه المعلومات، وأن صدام لن يكون من الغباء بحيث يستخدم هذه المخابيء مرة أخري، خاصة أن صدام معروف بالذكاء وإجادة التمويه والتغطية علي تحركاته، كما أنه يعرف جيدا طبيعة الأراضي العراقية.
وقد كتب سيمون دارايز هذا التقرير في أغسطس الماضي وأكد في تقريره أن الأماكن التي من المحتمل أن يتواجد فيها صدام لن تخرج عن أحد مكانين:
إما في منزل أسرة بعيدة عن بغداد وأنه يثق في هذه الأسرة كثيرا وهي قادرة علي حمايته.
وإما أنه في منطقة مهجورة وغير مأهولة بالسكان وأن صدام أعد لنفسه مخبأ في هذه المنطقة وأن هذا المخبأ سيكون بالقرب من عشيرته وبلدته تكريت.
وكان دارايز يري أن صدام حسين لايمكن أن يكون قد غادر العراق فهذا احتمال بعيد من خلال معرفة شخصية صدام التي تأبي الهروب.
ورأي دارايز بضرورة التركيز علي الحرس الشخصي ومرافقي صدام الذين يعرفون تحركاته في الفترة القادمة، وكانت الخطة تقول إن البحث عن الكبار واعتقالهم بزعم أن هؤلاء هم الذين سيؤدون إلي اعتقال صدام حسين هي فكرة خاطئة وغير صحيحة.
وكانت فكرة دارايز تري ضرورة تنحية القوائم والخطط التي اعدها الأمريكيون للوصول إلي مكان صدام خاصة بعد الفشل الذي منيت به هذه الخطط في الفترة الماضية.
وكانت الخطة الجديدة التي وضعها دارايز تقول : إن 'الصيد الثمين' الذي يمكن أن يقود إلي مكان صدام هم قادة الحرس الشخصي والذين لم يتركوه حتي بعد سقوط بغداد.
كانت المؤشرات الأولية التي بدأت تتجمع في اغسطس الماضي تقول إن هناك اشخاصا أكدوا انهم رأوا صدام في جنوب بغداد مرة ورأوه في تكريت مرة وفي عدة مناطق أخري.
وهكذا راح الفريق الجديد للمخابرات الأمريكية في العراق بقيادة 'سوارزكيفان' يجمع خيوطا من المعلومات حول الأشخاص الذين يروون تفاصيل تحركات صدام وكذلك كيفية مشاهدته والأشخاص الذين كانوا يحرسونه.
كانت المخابرات الأمريكية قد جمعت اكثر من 100 صورة ل100 شخص من الحراس السابقين لصدام، والمرافقين لتحركاته وأقربائه، وكانت هذه الصور يتم عرضها علي الأشخاص الذين يدلون بمعرفتهم لصدام وقربهم منه. وكان السؤال المطروح عليهم هو كيف رأوا صدام؟ وكان السؤال الأكثر الحاحا هو عن الأشخاص الذين يقومون بحراسته ومرافقته وأوصاف هؤلاء الاشخاص والأماكن التي يترددون عليها.
لم تكن المخابرات الأمريكية وحدها التي تواصل عملية البحث عن الرئيس العراقي، كان يعاونها أيضا فريق من الاستخبارات الإسرائيلية مكون من عشرة افراد بمن فيهم رئيس قسم العمليات والاستطلاع بجهاز الموساد.
وهكذا وبعد تحقيقات مكثفة وعرض صور الحراس علي المقبوض عليهم، تأكد لدي المخابرات الأمريكية والإسرائيلية أن صدام لم يبق إلا علي اثنين فقط لحراسته، وأنه استبعد كل الآخرين وقد تطابقت الاوصاف التي ادلي بها هؤلاء عن الحراس مع رؤية بعض الأشخاص للرئيس في تكريت وآخرين عن رؤيتهم له في الرملة وكذلك في كركوك وتحدث المقبوض عليهم عن أن هذين الحارسين كانا من أكثر الذين يثق فيهم الرئيس صدام.
تركزت التحقيقات بعد ذلك في معرفة كافة التفاصيل عن تحركات هذين الشخصين والسعي من أجل القبض عليهما وأسرهما.
وتجمعت المعلومات التي ساعد فيها أفراد من المخابرات العراقية، واستطاع الفريق الأمريكي الإسرائيلي القبض علي واحد من المقربين للرئيس صدام واسمه 'عصامي عبود' في أواخر اغسطس الماضي وجرب معه الأمريكيون والإسرائيليون كافة أساليب التعذيب والقهر النفسي لمعرفة مكان صدام إلا انهم فشلوا في البداية، وتحت ضغوط نفسية وبدنية عنيفة استمرت 18 يوما متصلة اعترف عصامي عبود بأحد المخابئ المهمة لصدام في جنوب بغداد.
وشكل اكتشاف هذا المخبأ نقطة محورية وجوهرية في مسار الخطة الأمريكية التي التزمت بالسرية المطلقة، وقد وجد هذا المخبأ في منطقة مهجورة وأن المخبأ كان يشبه المخبأ الأخير الذي عثر فيه علي الرئيس صدام.
كان المخبأ داخل غرفة ومنها إلي حجرة عميقة، وكانت الحفرة التي تؤدي إلي الحجرة العميقة تبدو وكأنها ضيقة مثل الحفرة التي وجد فيها صدام.
وبناء علي معاينة هذا المكان الذي حرص رجال المخابرات الأمريكية أن يحيطوه بالسرية الكاملة وكذلك دخوله والخروج منه بحذر شديد دون المساس بالمقتنيات التي كانت تبدو في غاية البساطة بداخله أدرك الفريق الأمريكي الإسرائيلي أن يدهم قد اقتربت من صدام.
وأحس رجال الاستخبارات الأمريكية أن صدام يتعامل بذكاء شديد خلال زيارته لهذه المخابئ المهجورة حيث إنه كان يضع علامات دقيقة للتأكد عما إذا كان أحد قد دخل إلي هذه المخابئ أم لا، وكان في اعتقاده وهواجسه الأمنية أن الأمريكيين سينصبون له كمينا في أحد هذه المخابئ.
وقد أكد 'عصامي عبود' خلال التحقيقات أنه ليس لديه علم إلا بثلاثة مخابئ أخري في الرملة وكركوك وجنوب بغداد وبالتالي لم يكن عصامي يعرف شيئا عن مخبأ 'الدور' في تكريت الذي عثر فيه علي صدام حسين فيما بعد